ما أشبه الليلة بالبارحة:

تصريحات سابقة للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش حول مذبحة سربرنيتسا قال فيها:
– “لكي نتجنب وقوع مثل هذه الأحداث المروعة في المستقبل، علينا أن ننظر بصدق إلى الماضي ونعترف بأن هذه الجرائم حدثت، ويتجلى دورنا في عدم السماح بحدوثها”.
– “هذا الفشل (في منع المذبحة وحماية ضحاياها) سيطارد تاريخنا إلى الأبد”.
إن كان الحادي عشر من يوليو هو “اليوم الدولي لتأمل وتذكر إبادة 1995 في سربرنيتسا” حسب ما سمّته الأمم المتحدة، فهل 29 عامًا هو الوقت الذي يستغرقه العالم لكي يبدأ في تأمل معاناة البعض وفهم المأساة التي يعيشونها؟
ألا يمكن للعالم أن يتحرك اليوم ليوقف شبح إبادة قد تتكرر، بدلًا من أن يضطر للدعوة لتذكرها غدًا؟

سربرنيتسا بعد 29 عامًا:

عامنا الحالي (2024) هو أول عام تُخصص فيه الأمم المتحدة يومًا عالميًّا لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية في سربرنيتسا التي وقعت عام 1995.
يوم 11 يوليو من كل عام هو اليوم العالمي الذي حددته الأمم المتحدة لتذكُّر ما لم ينسه أهل سربرنيتسا يومًا، فأهلها حتى اليوم يبكون، وبعضهم حتى اليوم يدفنون رفات ذويهم الذي يجدونه بعد بحث طويل في المقابر الجماعية التي أُلقي فيها ما يزيد على 8300 شخص قُتلوا في مذبحة مروعة في مدينة سربرنيتسا بالبوسنة على يد قوات الصرب، دُفن منهم بالفعل نحو 7000، عُثر عليهم في 95 مقبرة جماعية مختلفة.

البعض الآخر لم يُدفن ذووهم بعد حتى الآن، حيث يُعد مكان وجود أكثر من 1000 آخرين مجهولًا!
أب يدفن رفات ابنه، وابن يدفن رفات أبيه، بضع عظام قليلة تكلفت جهودًا مضنية وسنوات طويلة حتى يتمكن ذووها من جمعها لدفنها في مكان معلوم، حيث عملت القوات الصربية آنذاك على نقل الجثث أكثر من مرة وتفريقها بين أكثر من مقبرة لإخفاء حجم الجريمة وتعقيد إثباتها.
مجزرة اشتهر أنها تقصدت الأطفال والرجال، وشردت من خلفها 30 ألفًا من الأمهات والزوجات والشيوخ، عجائز حتى الآن بدلًا من أن يقضين آخر أعمارهن في استقرار بين أحفادهن وأحبابهن، فإنهن يقضينها بين المقابر الجماعية ومراكز تحديد الهوية.

11 يوليو 1995.. يوم يجب ألا يُنسى!

حصار سربرنيتسا: قبل هذا اليوم بأشهر قليلة، تحديدًا في مارس 1995، طوَّق صرب البوسنة مدينة سربرنيتسا تحت تعليمات رادوفان كراديتش زعيم صرب البوسنة آنذاك، وحوصرت المدينة وجُوِّعت للضغط على المقاتلين البوسنيين للخروج منها، إلى أن نجحت القوات في يوليو 1995 في دخول المدينة والاستيلاء عليها.
– في 6 يوليو قامت القوات العسكرية بمهاجمة المدينة من الجنوب وحرقت المنازل فيها، حيث فرَّ الآلاف إلى المخيمات المجاورة تحت رعاية الأمم المتحدة.
– خرج راتكو ملاديتش، رئيس أركان جيش صرب البوسنة إبان الحرب، أمام وسائل الإعلام يتجول في المدينة واعدًا سكانها بالأمان والحماية والسماح لهم بالخروج من المدينة.
– في 11 يوليو 1995، وبعد مغادرة وسائل الإعلام في اليوم نفسه، بدأ التمهيد للمذبحة، حيث فُصِل الرجال عن الأطفال والنساء، ثم اقتيد الرجال إلى مواقع المجزرة، والنساء إلى المخيمات، حيث رويت من هناك قصص مروعة لاغتصاب بعضهن.
– بدأت الإبادة يوم 13 يوليو، واستمرت تلك المجزرة أربعة أيام، سُمع خلالها دوي رصاص حي لا يتوقف، والجرافات تحفر المقابر الجماعية، حيث يقتلون بشكل جماعي، ودُمِّر حول المدينة 296 قرية بالكامل.
– أصبحت واحدة من كل 4 أسر تعولها امرأة فقدت زوجها.

 

المأساة بعيون الإغاثة وأهلها:

عمران مدين”، رئيس قسم الشؤون الإنسانية لدى الإغاثة الإسلامية سابقًا، الذي وصل إلى البوسنة في أوائل يوليو 1995، يقول: “الدخول للبوسنة كان صعبًا للغاية، إذ أغلقوا المطار بعد قصفه وقصف المدرج خلال المجزرة، حين وصولي كان الوضع الأمني ما زال خطيرًا، إذ هرب بنا السائق من القناصات، شهدت تدمير جسر موستار، وهو جسر عثماني من القرن السادس عشر، كما صُدمت بتقسيم المدينة إلى شرق وغرب، المنازل كانت مدمرة بالكامل، على ما يبدو أن نيران المدافع الرشاشة كانت شديدة لدرجة انهيار الجدران. على طول الطريق تحولت المنظمات غير الحكومية إلى محطات إطفاء وإنقاذ. تلك المدينة الجميلة أصبحت مدينة تغزوها الأشباح”.
ويكمل السيد مدين: “الإغاثة الإسلامية كانت موجودة وتوزع الطعام في مخيمات النازحين، ذات يوم رأيت أعدادًا كبيرة من النساء والأطفال في طريقهم للمخيم بعد إخراجهم من المدينة، كان الإرهاق قد بدا عليهم، بدأنا بتقديم المساعدة لهم، وأخبرونا أنهم ظلوا محاصرين في سربرنيتسا في ظروف صعبة بلا طعام، ودوي الرصاص في كل مكان في المدينة لا يتوقف”.

في شهادات أخرى أوردها برنامج (كنا هناك) بالتلفزيون العربي، تقول شهرة سينانوفش، ناجية من مجزرة سربرنيتسا، التي لجأت إلى البلدة أيام الحرب وكانت شاهدة على الإبادة الجماعية فيها: “عايشت جرائم عديدة خلال الحرب بين عامي 1992 و1995، حيث لم يكن لدينا طعام وشراب، ونعيش تحت الحصار، ونخوض معركة لنبقى على قيد الحياة”.
وتكمل: “اضطررنا للهرب من منزلنا تحت القصف باتجاه محطة الوقود التي تبعد عنه بضعة كيلومترات. وأصعب لحظة كانت عندما ودعني زوجي قبل ذهابه إلى الغابة، وكان أولادنا صغارًا حينها، وأوصاني بالانتباه للأطفال”.
وروت كادا هوتيش، ناجية من مذبحة سربرنيتسا، أنّ المدينة كانت مليئة بألسنة اللهب، وبعض المسنّين وذوي الاحتياجات الخاصة أُحرقوا في منازلهم لأنهم لم يستطيعوا الخروج منها. بينما تخلّت القوات الدولية عن نقاط المراقبة على التلال المحيطة بالمدينة وهرب عناصرها إلى قاعدة بوتوتشاري.
وأوضحت هوتيش أنّها بقيت في المخيم ليلتين كاملتين، “وفي اليوم الثاني دخل ملاديتش برفقة القوات الصربية، حيث قال إنّه لن يحدث لنا شيء، وإنّه لا داعي للذعر، سنقوم بمبادلتكم، وتأكدوا من عدم ضياع أطفالكم. لكن عندما أُطفئت الكاميرات، كنت بالقرب منه، خاطب ملاديتش جنوده قائلًا لهم بالحرف: “إخواني الصرب، استغلّوا هذه الفرصة الذهبية لأنها لن تتكرّر لنا أبدًا”.
وأضافت: “في تلك الليلة، سمعت صراخ النساء وبكاءهن، ورأيت الخوف في وجوه الناس، خوف لم أرَ مثله في حياتي من قبل، حتى ظننت أننا نعيش يوم القيامة”.

لن نقف مكتوفي الأيدي:

نحن في الإغاثة الإسلامية نعمل على خدمة أهل البوسنة والهرسك منذ بداية حرب عام 1992، نسعى لإغاثتهم، ونبني معهم ما هُدم، ليس فقط المنازل والمدارس، بل كذلك الأمل في قلوبهم، نحاول دعم اقتصاد أنهكته الحرب، نتبنى مشروعات مثل “الصوبات الزراعية” لتعود بالنفع على آلاف الأرامل والأيتام.
خلال الحرب حاولنا التخفيف عن المكلومين قدر استطاعتنا، تمكنا -بفضل الله- من تقديم 700 طن من المساعدات للشعب في البوسنة جزءًا من عملنا هناك، وساهمنا في إصلاح المدارس وتنظيم الملاجئ وتزويدها بدورات المياه والتدفئة اللازمة، حيث استُخدمت مراكز جماعية للاجئين.

جميع الحقوق محفوظة لمنظمة الإغاثة الإسلامية عبر العالم 2024 ©
الإغاثة الإسلامية عبر العالم منظمة خيرية دولية غير حكومية مسجلة فى المملكة المتحدة برقم : 328158 328158